صناعة الجوع في السودان واحتكار الأسعار. بين الفوضى الاقتصادية والتلاعب السياسي

السودان، البلد الذي كان يُعرف يومًا بـ "سلة غذاء العالم العربي"، يعاني اليوم من أزمة غذاء خانقة وصفتها منظمات دولية بأنها من بين الأسوأ عالميًا. الجوع في السودان لم يعد نتيجة عوامل طبيعية فقط، كالجفاف أو النزاعات، بل أصبح نتاجًا مركبًا لما يمكن تسميته بـ"صناعة الجوع"، التي تشترك فيها أطراف عدة، من فاعلين اقتصاديين محليين ودوليين، إلى تجار الأزمات والمحتكرين، مرورًا بضعف الرقابة الحكومية وانهيار المنظومة الاقتصادية. في هذا المقال المطول، سنغوص في عمق الأزمة لنفكك أبعادها: من هو المسؤول؟ كيف يتم احتكار الأسعار؟ وهل يمكن فعلاً إنقاذ السودان من هذا الجوع المصنوع؟  

أولًا: خلفية تاريخية للأزمة الغذائية في السودان

لطالما كان السودان بلدًا زراعيًا غنيًا بالموارد الطبيعية. فالنيل يمر عبره، ومساحات الأراضي الصالحة للزراعة تتجاوز الملايين من الهكتارات، والمناخ في أجزاء واسعة منه مناسب للزراعة الموسمية والدائمة.
ومع ذلك، فإن هذه الإمكانيات لم تُستغل بطريقة مستدامة لأسباب متعددة، منها:
  • الحروب الأهلية الطويلة في الجنوب ودارفور.
  • عدم الاستقرار السياسي بعد الاستقلال.
  • الفساد المنتشر في مؤسسات الدولة.
  • الاعتماد شبه الكلي على صادرات محددة مثل النفط (قبل انفصال الجنوب).
  • ضعف البنية التحتية الزراعية وسوء إدارة الموارد. ومع مرور الوقت، تراجعت الإنتاجية الزراعية، وبدأت البلاد تعتمد بشكل متزايد على الاستيراد، وهو ما جعل الاقتصاد هشًا ومعرّضًا للأزمات العالمية، وخصوصًا بعد انفصال الجنوب في 2011 الذي أفقد السودان نحو 70% من موارده النفطية.
ثانيًا: ما المقصود بصناعة الجوع؟
صناعة الجوع: مصطلح يشير إلى العمليات والسياسات المتعمدة أو المُهملة التي تؤدي إلى خلق ظروف تؤدي إلى تفشي الجوع في المجتمعات. إنها ليست مجرد نتيجة للفقر أو الجفاف، بل عملية ممنهجة تُغذّى من قبل:
  1. الاحتكار ورفع الأسعار عمدًا.
  2. التلاعب بالأسواق والتخزين لأغراض ربحية.  
  3. التهميش المتعمد للمزارعين الصغار.
  4. عدم وجود سياسات اقتصادية عادلة تدعم الإنتاج المحلي وتحد من الاستيراد العشوائي.
  5. استخدام الغذاء كسلاح سياسي لإخضاع المناطق المعارضة أو الهامشية. وفي السودان، تتجلى هذه الصناعة في عدة مستويات، كما سوف نزيدك بتفاصّيل لاحقًا.

ثالثًا: الاحتكار بوصفه أداة لصناعة الجوع في السودان

الاحتكار في السودان لم يعد حالة فردية أو مجرد سلوك تجاري معزول، بل أصبح **هيكلًا اقتصاديًا متجذرًا**. فالسوق السودانية تسيطر عليها فئة قليلة من رجال الأعمال والشركات، وغالبًا ما يكون لهم ارتباطات مباشرة أو غير مباشرة بالسلطة، سواء كانت حكومة مركزية أو حركات مسلحة مسيطرة على مناطق بعينها.  
أشكال الاحتكار في السوق السودانية:
1. احتكار السلع الأساسية:
  • القمح، السكر، الدقيق، الزيوت، وحتى الأدوية.
  • يُلاحظ أن بضعة شركات فقط تتحكم في استيراد وتوزيع هذه السلع، مما يسمح لها برفع الأسعار بشكل غير مبرر.
  • في كثير من الأحيان، يتم تخزين السلع لفترات طويلة لخلق نقص مصطنع، ومن ثم بيعها بأسعار مرتفعة عند تفاقم الأزمة.
2. احتكار العملة الصعبة:
  • التجار الكبار والمضاربون في السوق الموازي يسيطرون على الدولار، ما يؤثر على أسعار السلع المستوردة.
  • يُقال إن بعض الفاعلين يحتفظون بكميات ضخمة من الدولار خارج النظام المصرفي، ويطرحونه في السوق عندما تكون الأسعار في ذروتها لتحقيق أرباح ضخمة.
3. احتكار الأراضي الزراعية:
  • العديد من الأراضي الخصبة بيعت لشركات أجنبية أو مستثمرين محليين مرتبطين بالسلطة بأسعار زهيدة.
  • هذه الأراضي تُستخدم غالبًا لزراعة محاصيل تصديرية لا تفيد السوق المحلي (كالبرسيم والسمسم)، بينما يُهمل إنتاج الغذاء الأساسي مثل القمح والذرة.

رابعًا: دور الدولة في الأزمة – بين العجز والتواطؤ

تتعدد أوجه مسؤولية الدولة في تعميق الجوع في السودان، ويمكن تلخيصها في النقاط التالية:
1. غياب الرقابة:
  • الأجهزة الرقابية شبه غائبة أو منهارة.
  • حتى عندما يتم ضبط المحتكرين، غالبًا ما تكون العقوبات رمزية أو يتم "التغاضي" عنهم لأسباب سياسية أو مالية.
2. انعدام السياسات الزراعية:
  • لا توجد استراتيجية قومية لدعم الزراعة المحلية.
  • انخفضت مخصصات وزارة الزراعة في الميزانية العامة بشكل ملحوظ.
  • المزارعون الصغار يُركّعون بارتفاع أسعار المدخلات الزراعية (كالأسمدة والبذور) دون دعم حكومي.
3. سياسة الدعم المشوّه:
  • رفع الدعم عن المحروقات والكهرباء جعل الزراعة مكلفة.
  • لا يوجد دعم حقيقي للخبز أو الطحين يصل للمحتاجين، بل يذهب غالبًا إلى تجار السوق السوداء.
4. استخدام الغذاء كسلاح سياسي:
  • يتم توجيه المعونات الغذائية أو المشاريع التنموية بحسب الولاءات السياسية.
  • تُستخدم قوافل الإغاثة لشراء الولاءات في مناطق النزاع.

خامسًا: الجانب السياسي لصناعة الجوع

الجوع في السودان ليس مجرد نتيجة اقتصادية، بل يُستخدم سياسيًا لإخضاع الشعوب. في عدة مناطق – خاصة دارفور، جنوب كردفان، والنيل الأزرق – استُخدم الجوع كأداة لحصار المجتمعات التي تُصنّف "معارضة" للسلطة.
أمثلة بارزة:
  1. في دارفور: منعت الحكومة وصول الإغاثات إلى بعض المناطق بحجة أنها تحت سيطرة حركات متمردة.
  2. في الخرطوم ومحيطها: يجري التحكم في توزيع الدقيق والخبز بحسب الولاء للنظام أو الجهة الحاكمة.

سادسًا: أزمات السوق والأسعار

الأسعار في السودان تتغير بشكل شبه يومي، مما جعل حياة المواطن غير مستقرة، ويعاني من حالة يُطلق عليها "تضخم الجوع".  
أسباب فوضى الأسعار:
1. غياب التسعير الرسمي الملزم.
2. سيطرة تجار الجملة الكبار.
3. ارتفاع تكاليف النقل بسبب انهيار الطرق وارتفاع أسعار الوقود.
4. غياب المنافسة وضعف الإنتاج المحلي.
5. تدخلات سياسية في السوق وتوجيهات غير مدروسة.
نتائج الاحتكار على المواطن:
  • انخفاض القدرة الشرائية.
  • ارتفاع معدلات سوء التغذية.
  • الاعتماد المتزايد على المعونات الخارجية.
  • تفشي الفقر المدقع حتى بين فئات كانت تُعد "متوسطة".

سابعًا: المنظمات الدولية وصناعة الجوع

تلعب المنظمات الدولية دورًا مزدوجًا في السودان. فمن جهة، تقدم مساعدات غذائية عاجلة تنقذ الملايين من المجاعة، ومن جهة أخرى، تعتمد على برامج لا تركز على التنمية المستدامة، بل تُغرق البلاد في الإغاثة الدائمة.

اولاً: نقاط الانتقاد:

  1. كثير من المعونات يتم توزيعها دون مراقبة، وتذهب إلى غير مستحقيها
  2. الاعتماد المفرط على الإغاثة أضعف الإنتاج المحلي.
  3. المنظمات تساهم – أحيانًا دون قصد – في ترسيخ سيطرة فئات بعينها على الغذاء.

ثامنًا: حلول ممكنة للخروج من الأزمة

رغم قتامة المشهد، إلا أن هناك طرقًا ممكنة لإنقاذ السودان من فخ الجوع المصنوع:

1. دعم الزراعة المحلية:

  • تقديم دعم مباشر للمزارعين الصغار.
  • تخفيض أسعار المدخلات الزراعية.
  • تطوير شبكة الري والتخزين.
2. سن قوانين صارمة لمكافحة الاحتكار:
  • تشكيل جهاز رقابي مستقل لمراقبة الأسعار.
  • سحب التراخيص من الشركات التي تحتكر السوق.
  • إنشاء أسواق مركزية حكومية للسلع الأساسية.

3. تعزيز دور المجتمع المدني:

  • دعم المبادرات الشعبية للزراعة المجتمعية.
  • تشجيع التعاونيات الزراعية والإنتاجية.

4. ضبط السوق المصرفي وسعر الصرف:
  • السيطرة على السوق الموازي.
  • توجيه التحويلات المالية لدعم مشاريع التنمية.
5. إشراك المغتربين في تمويل الأمن الغذائي:
  • إنشاء صناديق استثمارية للمغتربين لدعم مشاريع زراعية في الوطن.

تاسعًا: الإعلام وصناعة الجوع – صمت أم تواطؤ؟

الإعلام، سواء المحلي أو العالمي، يلعب دورًا محوريًا في تشكيل وعي الجماهير وتوجيه اهتمام الرأي العام نحو الأزمات الإنسانية، ولكن في حالة السودان، نجد أن **الإعلام التقليدي يقف في موقع غامض** أمام قضية الجوع واحتكار الأسعار.
1. الإعلام الحكومي:
  • في الغالب، يتعامل مع الأزمة من زاوية سياسية دعائية، ويُحمِّل أطرافًا خارجية مسؤولية المجاعة، متجاهلًا الأسباب الداخلية الحقيقية مثل الفساد أو فشل السياسات.
  • يركز على تغطية المبادرات الشكلية أو "المهرجانات الزراعية" بدلًا من التحقيق في قضايا الاحتكار وتخزين السلع.
2. الإعلام المستقل:
  • يواجه صعوبات كبيرة في تغطية الموضوع بحرية، مثل الرقابة، والتهديدات، وضعف التمويل.
  • لا يمتلك في كثير من الأحيان الوسائل الفنية والتمويل اللازم لإجراء تحقيقات ميدانية معمقة حول شبكات الاحتكار أو صفقات فساد الغذاء.
3. الإعلام الدولي:
  • كثير من الوكالات والمؤسسات الدولية لا تُبرز حجم الكارثة السودانية إلا عندما تصل إلى مرحلة المجاعة الجماعية.
  • يتم تجاهل السياق السياسي والاقتصادي لصناعة الجوع، والتركيز فقط على "الأعراض" لا "الأسباب الجذرية".
النتيجة؟
غياب التغطية العادلة يعمّق الأزمة، ويحولها من قضية رأي عام إلى *مأساة صامتة* تُنسى بسهولة، ولا تتحرك لها إرادات الشعوب أو الحكومات.

عاشرًا: قصص من أرض الواقع – الجوع في كلمات الناس

لفهم عمق الكارثة، لا يكفي الحديث بالأرقام والنظريات، بل لا بد من الاستماع إلى من يعيشون المأساة يوميًا. إليك بعض الشهادات الواقعية:
  1. فاطمة – ربة منزل من شرق النيل: زمان كنا بنزرع في البيت، حتى الطماطم والجرجير، لكن هسي الموية مقطوعة والدقيق غالي، وبقينا ناكل يوم ونصوم يوم.
  2. علي – مزارع من الجزيرة: نشتري الجازولين بالسوق الأسود، الكرتونة حق السماد بأكتر من نص المحصول. نزرع بخوف، ويمكن نخسر كل شيء فجأة من غير تعويض.
  3. سامي – شاب خريج يسكن أم درمان: أنا بشتغل في محل اتصالات، لكن الراتب ما بجيب ليا غدا وعشا. نعيش بالجنيه وندفع بالدولار.هذه الأصوات ليست استثناءً، بل تمثل حال آلاف الأسر في السودان، ممن يعانون يوميًا من جوع مقنّع يُدار بعقلية السوق السوداء والمصالح المحتكرة.

الحادي عشر: علاقة الجوع بالهجرة والتهجير في السودان

الجوع ليس معاناة فردية فقط، بل له *تبعات جيوسياسية* واضحة، من أبرزها:
1. النزوح الداخلي:
  • مناطق مثل دارفور وجنوب كردفان تشهد موجات نزوح مستمرة بسبب انعدام الأمن الغذائي.
  • النازحون يصبحون فريسة سهلة للتجنيد من قبل المليشيات أو أدوات القوى المتصارعة.
2. الهجرة إلى خارج البلاد:
  • عدد كبير من الشباب السوداني يغادر إلى مصر، ليبيا، دول الخليج، وحتى أوروبا، هربًا من الجوع والفقر.
  • هذه الهجرة تستنزف الكفاءات الزراعية والإنتاجية التي كان من الممكن أن تساهم في حل الأزمة.
3. صراعات على الموارد:
  • الجفاف وندرة الغذاء يؤججان الصراعات القبلية على المراعي والحقول ومصادر المياه، وهو ما يؤدي إلى عنف دموي متكرر في الأرياف.

الثاني عشر: هل هناك تجارب ناجحة داخل السودان؟

رغم كل التحديات، هناك مبادرات محلية وشعبية تستحق الإشادة:
1. مبادرات الزراعة المجتمعية:
  • بعض القرى أقامت "جمعيات زراعية" جماعية تقاسم الإنتاج بين السكان.
  • تعتمد على مصادر مياه بديلة كالآبار الجماعية.
2. مبادرات الشباب في المدن:
  • مشاريع "زراعة الأسطح"، و"بساتين الحوائط"، تمثل حلولًا مبتكرة للغذاء داخل المدن.
  • دعم ذاتي من المتطوعين دون دعم حكومي أو خارجي.
3. التعاونيات النسائية:
  • في عدد من مناطق النيل الأبيض وكسلا، تقود نساء مبادرات لإنتاج الخبز والزيوت النباتية محليًا، لتوفير الغذاء بأسعار رمزية. هذه النماذج تثبت أن الحلول ممكنة، لكنها تحتاج إلى *رؤية وطنية شاملة*، وقيادة سياسية تضع الإنسان قبل السوق.

الثالث عشر: كيف يمكن للسودانيين في الخارج أن يساعدوا؟

الجاليات السودانية في الخارج تمثل ثروة وطنية لا تقدّر بثمن، ويمكنهم أن يكونوا شركاء في الحل لا مجرد مصدر تحويلات. إليك بعض الأفكار:
1. إنشاء صناديق زراعية استثمارية للمغتربين.
2. دعم مشاريع إنتاج الغذاء في المناطق الريفية.
3. إطلاق حملات توعية ضد الاحتكار في الإعلام الجديد.
4. الضغط على المنظمات الدولية لتوجيه الدعم نحو التنمية المستدامة لا الإغاثة المؤقتة.

خاتمة شاملة: الطريق إلى الخلاصة

صناعة الجوع في السودان ليست نتاج الجفاف أو الفقر وحده، بل هي جريمة اقتصادية تُرتكب ببطء ضد الشعب. إنها شبكة معقدة من التواطؤ بين السلطة والمحتكرين والسماسرة، تفتك بالضعفاء وتغني القلة.  
لكن في المقابل، توجد في هذا البلد إمكانيات ضخمة، وأرض خصبة، وعقول شابة يمكنها قلب الموازين إذا وُجد القرار.  
لن ينتهي الجوع بالصدقات أو المعونات وحدها، بل [ بالعدالة الاقتصادية، وتحرير السوق من أيدي الطفيليين، ودعم الإنتاج المحلي، وتمكين المزارعين، وكسر سلاسل الاحتكار ].
إن تحرير الخبز من براثن السوق السوداء، والزراعة من ربقة الفساد، والأسواق من سطوة الكبار، هو أول خطوة نحو سودان يطعم أبناءه لا يشحد لهم الغذاء.
وكالة الفيزا نيوز
بواسطة : وكالة الفيزا نيوز
وكالة الفيزا نيوز وكالة اخبارية تهتم بالشأن العربي وقضايا الشعوب العربية و القضايا العالمية بمختلف جوانبها وتسلط الضوء علي التاريخ العربي و العالمي بعيد عن أي ايديولوجيات سياسية أو عرقية أو دينية؛ وتهتم بعلم القانون بمختلف جوانبه ، وعلم الاقتصاد والمساعدة في حل الازمات الاقتصادية، ونقدم قسم الموسوعة لنشر التاريخ العربي و العالمي وغيرها من العلوم والأحداث.
تعليقات